سباق احتواء الحرب التجارية وفرصة لترتيب قمة بين ترامب وشي
ستوكهولم تحتضن مفاوضات أمريكية صينية ساخنة
في لحظة حاسمة من عمر العلاقات الاقتصادية الدولية، استضافت العاصمة السويدية ستوكهولم، الإثنين، جولة محورية من المحادثات بين مسؤولين أمريكيين وصينيين، في مسعى مشترك لكبح جماح الحرب التجارية الدائرة بين أكبر اقتصادين في العالم، وسط مراقبة دقيقة من الأسواق والجهات المعنية بتداعيات أي فشل أو اختراق يمكن أن يؤثر في سلاسل الإمدادات والصناعة العالمية.
خمس ساعات من الحوار بين وفدي واشنطن وبكين… وترقب لتمديد الهدنة الجمركية
انطلق اللقاء الموسع الذي جمع وزير الخزانة الأمريكي سكوت بيسنت ونائب رئيس الوزراء الصيني خه لي فنغ، في مقر رئاسة الوزراء السويدية بحضور كبار مستشاري الأطراف الاقتصادية، وجرت المحادثات خلف أبواب مغلقة لأكثر من خمس ساعات متواصلة. جاء اللقاء بالتزامن مع اقتراب المهلة الحاسمة التي تنتهي في 12 أغسطس المقبل، والتي حددتها واشنطن لبلورة تسوية جذرية حول الرسوم الجمركية المتبادلة ووقف التصعيد في ملف المعادن الأرضية النادرة والتكنولوجيا الحساسة.
وأشارت عدة مصادر مطلعة إلى أن هدف اجتماع ستوكهولم تركز خصوصاً على تمديد الهدنة التجارية بين الطرفين لمدة 90 يوماً إضافياً، بعد هدنتين أوليتين تم الاتفاق عليهما في مايو ويونيو الماضيين، لتفادي انفجار دائرة الرسوم على الواردات المعتمَد عليها من الطرفين، في قطاعات تمتد من السيارات والإلكترونيات إلى المعادن الدقيقة.
يذكر أن مشاركة بيسنت ولي فنغ، إلى جانب ممثلين عن وزارتي التجارة والصناعة، تعكس جدية المرحلة ومخاطر إخفاق التهدئة، إذ تهدد رسوم جمركية أمريكية مرتفعة بعودة الاضطرابات إلى الأسواق العالمية وعرقلة انسيابية التجارة الثنائية، وسط معركة شد وجذب بين الصين وواشنطن حول مستقبل تجارة الرقائق والتكنولوجيا والمواد الأساسية للصناعات المتقدمة.
الصمت يلف الأجواء… وملفات شائكة تعلّق الحسم
انتهى الاجتماع في الثامنة مساء بالتوقيت المحلي، وخرج الوفدان دون الإدلاء بأي بيانات رسمية، ما فُسر بمواصلة المشاورات في اليوم التالي وعدم التوصل إلى انفراج فوري بشأن الملفات الكبرى.
تطرق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى سير المحادثات خلال زيارته إلى إسكتلندا أثناء لقائه مع رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، مؤكدًا: “نحن نتفاوض مع الصين الآن. أود رؤية الصين تفتح أسواقها أكثر أمام المنتجات الأمريكية.”
من جانبه، كشف الممثل التجاري الأمريكي جيميسون جرير لشبكة CNBC أن إدارة ترامب لا تتوقع نتائج “بارزة” من لقاء ستوكهولم، بل يعتبر الاجتماع فرصة لمراقبة تنفيذ الاتفاقات السابقة، وضمان استمرار تدفق المعادن الحيوية للصناعات الأمريكية، وتأسيس قاعدة متينة لتجارة متوازنة في المستقبل.
الاتفاق التجاري الأمريكي الأوروبي يلقي بظلاله… وضغوط تشريعية من الكونغرس
زاد من تعقيد الصورة التجارية، نجاح ترامب قبل أسبوع فقط في انتزاع اتفاق تجاري مع الاتحاد الأوروبي، يقضي بفرض رسوم جمركية بنسبة 15% على معظم صادرات التكتل، في حين أبقى على رسومه الأعلى (50%) على منتجات الصلب والألمنيوم. في المقابل، ما زالت الاتفاقات الأمريكية الصينية تراوح مكانها في ربعها الأول، بسبب حجم التبادل غير المتكافئ ومخاوف الولايات المتحدة من سياسات الصين التجارية ودعمها الرسمي للتصدير.
وفي خلفية المشهد، برزت معطيات إضافية تربك جدول التفاوض، حيث يستعد أعضاء الحزبين في مجلس الشيوخ الأمريكي لتقديم مشاريع قوانين تفرض ضغوطًا إضافية على الصين في ملفات حقوق الإنسان، ملف تايوان، قضايا الإنترنت والأمن السيبراني، وهو واقع يزيد المخاوف من صعوبة تحقيق تهدئة طويلة الأمد، وقد يخلق عراقيل جديدة أمام أي تفاهمات اقتصادية مستقبلية.
قمة مرتقبة بين ترامب وشي: التمديد المؤقت أمل الأسواق
رغم كل التعقيدات، يرى مراقبون أن اجتماعات ستوكهولم تتيح فرصة واقعية لتمديد الهدنة التجارية المعلنة في مايو، بما يفتح الطريق لترتيبات أوسع تشمل اجتماعًا قد يجمع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس الصيني شي جينبينغ في قمة شخصية تُعقد أواخر أكتوبر أو مطلع نوفمبر، بحسب تقارير إعلامية مثل “فاينانشال تايمز”.
وتفيد مصادر متقاطعة أن الولايات المتحدة علقت مؤقتًا بعض القيود على صادرات التكنولوجيا إلى الصين، مسهلة تجارة الرقائق وأشباه الموصلات، لدعم جهود إنجاح المفاوضات وتقليل احتمالات تعثر الحوار أو تفجر موجة عقوبات متبادلة. كما أن بكين، بحسب محللين، تملك ورقة ضغط هائلة عبر احتياطياتها من المعادن الأرضية النادرة التي تعتمد عليها الصناعات الأمريكية الدفاعية والمدنية على السواء.
العقبات العميقة: دعم الصادرات والسياسات الصناعية
برغم زخَم اللقاءات الأخيرة في جنيف ولندن وما رافقها من اتفاقات جزئية حول تجارة المعادن وتدفق الرقائق الذكية، ما تزال المحادثات الأعمق حول جوهر النموذج الاقتصادي الصيني المعتمد على دعم الدولة للشركات المُصدِّرة، وتدفق السلع الرخيصة، غائبة عن المفاوضات المباشرة. في المقابل، تعبّر الصين عن غضبها من القوانين الأمريكية التي تُفرض باسم الأمن القومي، وتشمل الرقابة على انتقال التكنولوجيا، استهداف الذكاء الاصطناعي، والتضييق على تطبيقات وتقنيات صينية متهمة باستخدام بيانات المستخدمين لأغراض أمنية وعسكرية.
ويشير خبراء الشأن الصيني في مراكز الدراسات الاستراتيجية الدولية إلى أن الطريق ما زال طويلاً قبل أن تتحول هذه الاجتماعات إلى تفاهمات هيكلية، يؤمل أن تستمر الهدنة الجمركية بهدف تأسيس تعاون اقتصادي جديد أكثر توازناً. أما إذا فشلت، فإن الأسواق العالمية قد تشهد اضطرابات أشد وأكثر تكلفة في سلاسل الإمداد، وتضييق غير مسبوق على التجارة الثنائية في مرحلة تتسم أصلاً بعدم اليقين الجيوسياسي.
الترقب يسود الأسواق والعواصم: مفاوضات ستوكهولم مرآة لعصر اقتصادي جديد
حتى الساعات الأخيرة، تبقى الأنظار شاخصة نحو ستوكهولم، حيث يؤمن العديد من المحللين بأن ما يجري على الطاولة هناك سيحدد ليس فقط مآل الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، بل أيضاً مستقبل العلاقة الاقتصادية بين قوى الشرق والغرب لعقدٍ مقبل، في ظل تزايد الحديث عن تغير مركز الثقل نحو آسيا والصراعات التكنولوجية المتسارعة.
بذلك، ترسم ستوكهولم هذه الأيام معالم حقبة اقتصادية جديدة عنوانها الحوار القلق والتنافس الاستراتيجي، بينما تستعد الأسواق لموجة جديدة من التحولات التي قد تغير مسار التجارة العالمية، وتعيد تعريف قواعد اللعبة بين أكبر اقتصادين على وجه الأرض.
ابقَ على اطلاع دائم بكل جديد في العالم مع المنبر، منصتكم للأخبار الموثوقة.
Share this content: